"جبل البركل".. مزار تاريخي حولته الحرب إلى مأوى للنازحين في السودان
وسط حرب تلتهم التراث والإنسان
على ضفاف نهر النيل في شمال السودان، يقف جبل البركل شامخًا بارتفاع 104 أمتار، يطل على بقايا معابد وقصور شيّدها ملوك وملكات مملكة كوش قبل آلاف السنين، كان الموقع، المُدرج على قائمة التراث العالمي لليونسكو، مزارًا للباحثين والسائحين وعلماء الآثار، ومركزًا لدراسة حضارة إفريقية حكمت مصر القديمة نفسها في فترة من التاريخ.
لكن الحرب التي اندلعت في أبريل 2023، وحوّلت السودان إلى ساحة واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية في العالم، قلبت المشهد رأسًا على عقب، فقد تحوّل "مركز زوار جبل البركل"، الذي اكتمل بناؤه عام 2019 ليكون محطة استقبال لزوار الموقع الأثري، إلى مأوى مكتظ بالوسائد وخزانات المياه وأسرّة بسيطة وملابس متناثرة، وإلى مكتب مؤقت لعشرات الأسر النازحة التي فرت من جحيم الصراع.
وفقا لتقرير نشرته “فايننشيال تايمز”، يملأ اليوم الأطفال والمراهقون والنساء والرجال قاعاته، فيما تتزاحم الهواتف لشحنها من المقابس القليلة التي ما زالت تعمل بانتظام في المنطقة، في حين يجلس أصحابها تحت الأشجار القريبة، ينتظرون اكتمال الشحن.
أزمة إنسانية منسية
بينما تهيمن الحروب في غزة وأوكرانيا على عناوين الأخبار، يعيش السودان مأساة غير مسبوقة: أكثر من 12 مليون نازح، 9 ملايين على شفا المجاعة، عشرات الآلاف من القتلى، وانتشار عمليات اغتصاب جماعي موثقة، حيث يدمر الصراع بين القوات المسلحة السودانية بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو حاضر البلاد وماضيها.
في العاصمة الخرطوم، كان المتحف الوطني السوداني أول ضحايا النهب الثقافي، حيث تعرضت مجموعاته التي تمتد من العصر الحجري إلى العصر الإسلامي للسرقة والتخريب، وبقيت القطع الثقيلة وحدها في أماكنها لعجز اللصوص عن حملها.
في قلب هذا المشهد المظلم، يبرز اسم سامي الأمين، مدير موقع جبل البركل وكل المواقع الأثرية في شمال وادي النيل السوداني، وأحد المديرين السودانيين لموسم التنقيب الأثري لهذا العام، عند اندلاع الحرب، كان أمامه خياران: الرحيل إلى المنفى، مثل كثير من زملائه، أو البقاء، لكنه اختار البقاء في "كريمة" مع زوجته وابنته الصغيرة، قائلاً: "لم أستطع مغادرة الموقع… إنه معرض للخطر".
ولم يكتف الأمين بحراسة الموقع، بل عمل على تركيب ألواح شمسية في مركز الزوار، لتأمين مصدر كهرباء نادر للنازحين، مما سمح لهم بشحن هواتفهم والاتصال بأقاربهم والوصول إلى التحويلات المالية عبر الخدمات المصرفية الإلكترونية، وهي شريان حياة أساسي في ظل انقطاع الكهرباء معظم أيام الأسبوع.
ووفر موسم التنقيب مصدر دخل ثمين لعمال المشروع من سكان "كريمة" والنازحين، في بلد بلغت فيه البطالة 62%، وتآكلت قيمة العملة المحلية بفعل التضخم.
يقول الأمين: "مئة دولار من مشروعنا تساوي أربعة أو خمسة أضعاف ما يعادلها بالجنيه السوداني"، مشيرًا إلى أن هذا المبلغ قد يعني بقاء أسرة على قيد الحياة.
برادشو.. شاهدة على الانهيار
وفي حديثها لصحيفة "فايننشيال تايمز"، أكدت عالمة الآثار ريبيكا برادشو، المشاركة في مشروع جبل البركل الأثري (JBAP)، استمرار أعمال التنقيب رغم الحرب، بفضل تعاون الهيئة الوطنية للآثار والمتاحف وجامعة ميشيغان، وبفضل دعم مانحين أفراد بعد توقف التمويل الأمريكي الرسمي.
ترى برادشو أن ما يحدث في السودان يعكس تراجع الدور الأمريكي في دعم التراث والتعليم العالي، وهو ما يهدد مستقبل مشاريع حيوية مثل JBAP، التي لا تقتصر أهميتها على البحث العلمي، بل تمتد لتشمل دعم المجتمعات المحلية المنهكة.
ويروي جبل البركل قصة مملكة كوش التي نشأت جنوب مصر، لكن رغم أكثر من قرن من الحفريات، لا يزال الغموض يلف حياة عامة الناس في نبتة القديمة، وهو ما يحاول علماء الآثار كشفه.
هذا الموسم كان مختلفًا، فالقواعد الأمنية منعت الفريق الدولي من دخول السودان، وتولى علماء آثار سودانيون، بينهم ثلاث طالبات جامعيات، إدارة العمل، لكن الحرب فرضت تحديات قاسية: هجوم بطائرات مسيرة على سد مروي القريب قطع الكهرباء، واضطر الفريق للتنسيق مع الاستخبارات العسكرية لاستخدام طائراتهم المسيرة الأثرية في أوقات محددة، لتجنب إسقاطها بالخطأ.
وفي إحدى المرات، أدى سوء التنسيق بين وحدات الجيش إلى اشتباههم في طائرة مسيرة أثرية، قبل أن يتضح الأمر في اللحظة الأخيرة.
المجتمع والآثار
رغم المآسي، يجد آلاف النازحين في جبل البركل متنفسًا للتجول بين الآثار أو تسلق الجبل لمشاهدة وادي النيل، ينظم الأمين وفريقه جولات للأطفال لتعزيز ارتباطهم بالمكان، حتى وإن لم يولدوا فيه، قائلين: "نريدهم أن يشعروا بالانتماء".
وفي حديث عبر فيديو واتساب، سألته برادشو عن سبب بقائه رغم كل المخاطر، فأجاب بلا تردد: "لقد مررنا نحن كشعب بالكثير، وكذلك هذه الآثار.. لقد صمدت في صمت لمدة 2500 عام، وشهدت الإمبراطوريات وهي تنهض وتسقط.. لن نسمح بتدميرها الآن".